قال تعالى ﴿وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون﴾.ان من أبرز مشاكل الإنسان هي انشغاله بلحظته الراهنة، وغفلته عن المستقبل. فإذا كان يعيش في لحظة يمتلك فيها أسباب القوة والقدرة فإنه يغفل عن أن هذه الحالة لن تدوم له، فقد تزول هذه القدرة التي كانت عنده، ولذلك ينبغي عليه أن يفكر في مآلات تصرفاته وأعماله في كل مجال، لكن الإنسان كما عبر القرآن الكريم ﴿كلا بل تحبون ا لعاجلة وتذرون الآخرة﴾.
فهناك من هم دائمو التفكير في الدنيا، غافلين عن مآلهم يوم القيامة، بل حتى في حياتهم الدنيا هم مشغولون بالتفكير في لحظتهم الآنية لاهين عن مستقبلهم وعن ما تخبئه لهم الأيام. لا يوجد انسان يضمن لنفسه الحياة واستمرار الصحة والقوة، فكم من حي مات في ذات اللحظة؟ وكم من سليم أقعده المرض والوهن سنوات؟ هكذا تتغير الأحوال. ان على الإنسان أن يفكر فيما وراء اللحظة المعاشة وأن ينأى بنفسه عن الغفلة عن قادم الأيام، وقد ورد وصف الله لبعض الأقوام بقوله سبحانه تعالى ﴿إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا﴾.
ان التعاليم الدينية تدفع الإنسان باتجاه التفكر في مستقبله ومآلات أفعاله، فقد ورد «إذا أردت أن تعمل عملا فتدبر عاقبته، فإن كان خيرًا فامض وإن كان شرًا فانته». ولعل أحوج الناس لتمثل هذه الحقيقة في نفوسهم وأذهانهم هم الحكام. فالحاكم الذي يمتلك القوة والسلطة عليه أن يتفكر جيدا في المستقبل عندما تدفعه قوته لظلم رعيته وشعبه. فقد يجد هذا الحاكم المجال مفتوحا أمامه لفعل ما يريد، من اضطهاد الناس وسرقة أموالهم وتبذيرها كيفما شاء، ولكن السؤال؛ ماذا عن المستقبل وعن الآخرة؟ هل الحكم والسلطة يحمي الإنسان من الموت؟ هل دامت للأبد حياة الحكام المتسلطين والجبابرة الغابرين؟ ثم إذا كانت لدى الحاكم سلطة وسطوة باطشة اليوم أفلا يمكن أن تزول منه هذه القوة غدا؟ فالحكام هم أولى الناس بالتروي والتفكر في مآلات أفعالهم، فلا ضمانة لأحد من تقلب الأيام ونكبات الدهر، كما قال ربنا عز وجل ﴿وتلك الأيام نداولها بين الناس﴾.
ان على الحكام أن يتعظوا ويعتبروا بأسلافهم، فالتاريخ يفيض بالعبر فهناك إمبراطوريات ذوت ودول عظمى دالت وحكام جبابرة زالوا، وإذا كان هؤلاء الحكام لا يقرأون التاريخ الماضي فليتعظوا بالتاريخ المعاصر. لقد شهدت منطقتنا العربية حتى سنوات قريبة مرور أعتى الحكام وأكثرهم بطشا وجبروتا وهو حاكم العراق السابق المقبور صدام حسين، فلم يكتف هذا الحاكم المتجبر بالتنكيل بشعبه أيما تنكيل، بل انسحب ظلمه وبطشه على الشعوب المجاورة، ولكن ماذا كانت النتيجة؟، كلنا رأينا وجميع الحكام رأوا كيف انتهى به المقام لأن يخرج من حفرة كان مختبئا فيها تحت الأرض ، ويقاد ذليلا إلى قفص المحاكمة, ثم يعلق على حبل المشنقة في نهاية المطاف.
ان هذه عظة حاضرة ولكن ما أكثر العبر وأقل المعتبر.ولعل العبرة الأخرى هي فيما يجري هذه الأيام من محاكمة لرئيس مصر، أقوى دولة عربية، بل أكبر وأقوى دول الشرق الأوسط، فقد حكم الرئيس المخلوع مصر بكل جبروت وغطرسة لثلاثة عقود من الزمن، وقد رأينا ورأى جميع الحكام كيف جيء به إلى داخل قفص الاتهام وهو على سرير المرض، ليحاكم في المكان الذي طالما مارس فيه غروره وغطرسته وهي أكاديمية الشرطة التي قلب اسمها على اسمه.
أليس في هذا عبرة لمعتبر.ان هذا الحاكم الذي حكم مصر بكثافتها السكانية التي يربو تعداد نفوسها على 80 مليون نسمة، يعيش منهم 40% تحت خط الفقر مع شح الموارد والنمو السكاني الكبير، الم يكن يفترض به الاهتمام بمصلحة الفقراء والمحتاجين من شعبه. تشير الإحصاءات إلى أن مولودا مصريا واحدا يأتي للدنيا كل 23 ثانية، وهذا ما يعني زيادة سكانية سنوية تعادل مليونا ونصف المليون مواطن، حتى أن آلافا من المصريين لا يجدون لهم مأوى فباتوا يعيشون في المقابر، عدى عن موجات الهجرة وسط الطاقات العلمية التي غادرت البلاد بحثا عن لقمة العيش، فيما يتلاعب الحاكم وأسرته وحاشيته الفاسدة بثروات الشعب وما يصل إليهم من تبرعات وهبات دولية. لقد تسبب هذا الحاكم في سقوط أكثر من 840 شهيدا وأكثر من ستة آلاف جريح في الثورة الأخيرة وحدها، أما المعتقلون السياسيون في عهده فتشير اقل الإحصاءات إلى أنهم زادوا على 30 ألف معتقل سياسي، في حين ترفع بعض الإحصاءات أعداد السجناء السياسيين في عهده إلى نصف مليون سجين.وعلاوة على ما سبق أوغل هذا الحاكم في ممالأته للعدو الصهيوني وتآمره مع كيان العدو ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، إلى جانب عقده اتفاقية مجحفة لبيع الغاز الطبيعي المصري بثمن بخس لإسرائيل وبسعر أقل من أسعار السوق. فقد قضت الاتفاقية التي وقعت عام 2005 بتصدير مليار وسبعمائة مليون متر مكعب سنويا من الغاز الطبيعي إلى إسرائيل ولمدة عشرين عاما، وذلك بثمن يتراوح بين سبعين سنت إلى دولار ونصف للمتر المكعب، بينما يصل سعر التكلفة في السوق إلى ما يقارب الثلاثة دولارات!، كما حصلت شركة الغاز الإسرائيلية، علاوة على ذلك، على إعفاء ضريبي لمدة ثلاث سنوات.
في مقابل ذلك وعلى الضفة الأخرى ظل الشعب المصري يعاني من أزمات الطاقة نتيجة شح الغاز في المحافظات المصرية، وكم رأينا العجائز وكبار السن يصطفون في طوابير طويلة طمعا في الحصول على اسطوانة غاز الطبخ، ناهيك عن أزمات انقطاع الكهرباء نتيجة الأمر نفسه.لقد استهان الحاكم المصري المخلوع ونظامه بمشاعر وكرامة المصريين إلى حد بعيد، ولذلك ليس مستغربا أن يصل إلى هذه النتيجة، التي بات معها خلف قفص الاتهام فقد تحمله الناس طويلا. وقد حدث ما يشبه ذلك أيضا لحاكم تونس الذي يعيش الآن وضعا صحيا مترديًا وقد حوكم غيابيا بالسجن مدة 16 عاما، ولعل فيما جرى لرئيس اليمن عبرة ثالثة لمن أراد، فقد بات يعاني من الحروق في أغلب أجزاء جسمه، فلماذا لا يتعظ الحكام؟ يقول الله تعالى ﴿فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون﴾.لاشك أن ما حصل في مصر وتونس وأكثر من بلد عربي يعد مؤشرا على زمن عربي جديد لا رجعة معه للوراء. ان على الحكام أن يعيدوا النظر في سلوكهم وأن يصححوا علاقتهم مع شعوبهم وإلا فإن زمن إخضاع الشعوب قد ولى، فما عادت الشعوب تحتمل مزيدا من الظلم والجور.
نسأل الله أن يصلح أمور المسلمين وأن يجنبنا الفتن.