التكاليف الباهظة للزواج هي المشكلة التي تعاني منها مجتمعاتنا، حيث تسللت إلى ساحتنا نتيجة صدودنا وعزوفنا عن تعاليم ديننا الحنيف الذي حث على التزويج وندب إليه ، وذلل أزماته ومعضلاته أمام المتزوجين .
إنَّ تعاليم الشريعة تدعو إلى تيسير الزواج إلى أبعد حدًّ بحيث يكون بوسع المعسر دون أن تطاله شروط التقليد أو التعقيد فتحول بين الزاج .
فالزواج وئام وانسجام ، سكن ومحبة ، لطف ومودة ، بناءٌ مقدسٌ أمرنا الله بتشييده وصونه ورعايته ، وليس الزواج صفقةً تجارية يتكسَّب من ورائها الأبوان ، وليس بيعًا او شراءً تقبل المفاصلة .
نجد من مظاهر تيسير الزواج في سنة النبي الأكرم (ص) أنَّ الرجل في عهده يتزوّج المرأة على السورة من القرآن الكريم - أي تعليمها - وعلى الدراهم وعلى القبضة من الحنطة .
فقد ورد عنه (ص) أنه قال : (( أفضل نساء امتي أصبحهنَّ وجهاً وأقلهـنَّ مهرًا ))(1) .
وقال (ص) : (( خير الصداق أيسره ))(2) .
وقال (ص) : (( إنّ من يمن المرأة تيسير خطبتها ، وتيسير صداقها ، وتيسير رحمها ))(3) .
وقال (ص) : (( تياسروا في الصداق، فإن الرجل ليعطي المرأة حتى يبقى ذلك في نفسه عليها حسيكة – أى عدواة -))(4) .
كما أنّ تعاليم الشريعة وضعت حدًّا للمهر وندبت إليه ، وهو ما يُسمَّى بمهر السُّــنَّة ، الذي زوّج عليه رسول الله (ص) بناته وتزوّج عليه بنســـائه ، ومقداره اثنتاعشرة أوقية ونصف ، ومى تعادل خمسمائة درهم .
فينبغي للمرأة وأوليائها أن يخفقوا عن مؤونة الزواج من المهر ولوازممه حتى لايعزف الشباب عن الزواج ، ومن ثمّ يقترب من دوائر الحرام فتكون فتنة وفساد كبير .
فاذا جـاء الخاطب الموصوف بالدين والأخلاق فلا بُدَّ أن يستقبل بالاحترام والقبول الحسن ، لانّه جاء ليخفف عنهم الكلفة ويصون لهم العرض ، وكان الإمام علي بن الحسين ( ع ) إذا أتاه ختنه على ابنته أو أخته ، بسط رداءه ثمّ أجلسه ، ثمّ يقول : مرحباً بمن كفى المؤونة وستر العورة .
مظاهر سلبية:
1- ظاهرة البدخ والتبذير :
الإسراف المادي المفرط في الأعراس انتشر مؤخراً كالنار في الهشيم ، وصارت محطًّا للمفاخرة والتباهي المصطنع لدى البعض الذي تمتلكهم الرغبة في الظهور أمام الآخرين على شاكلة ( الأبهات ) معتقدين أن المال الذي ينفق بإسراف في الأعراس هو وحده الذي يضفي عليهم صفة الوجاهة الاجتماعية ، بيد أنَّ الأمر مختلف تماماً إذا ما أخذناه في أبعاده الاجتماعية التي تنبذ عملية التمايز والفوارق بين الفئات والشرائح الاجتماعية .
ولذا السبب نرى عزوف الشباب عن الزواج في كثير من المجتمعات الإسلامية والعربية هرباً من شبح التكاليف الباهظة ، فغلاء المهور، وهيئة المسكن، وإقامة الحفلات ، وبسط الولائم وتبادل الهدايا ، ... إلخ،
وغدا الأمر حتّـى تحوّل إلى واقع متأ صَّل في حفلات الأفراح لا مفـرّ منـه، وفرض هذا الواقع السلبي حتى على الفقير والضعيف، إذْ لا يجدُ بُدَّا من مواكبـة الموجة المثقلة عليه في جتنبها الماديَّ ، بل تدفعه الحاجة إلى الولوج في أحوال الديون التي يبقى ظلُّها عليه لسنوات عديدة .
ومايدعو للأسف أن مظاهر السَّفه الماديَّ ، والتفنُّن بالبدخ أضحت السَّـمة البارزة لأفراحنا وأعراسـنا ، وبـدأت تزحف إلى كل شرائـح كياننا لتطال الأسر والعوائل ، فحمَّى المنافسـة بين النسـاء على تطريز الثياب و الفسـاتين ، والتصوير المتعدد ، والكاميرا التي لا تنفكُّ عن الرجل وزوجـه ، إلى صـالات الأفراح وجلب ( الطَّقَّاقة ) والمبالغة في أجور تكاليفها ، ويبقى الباب مفتوحًا لورود عادات وحركات وموضات جديدة تزيد من درجة الإنفاق وتثقيل كواهل الأسر .
نشرت جريدة الشرق الأوسط في أحـد أعدادها تقريراً مختـصرًالـ ( حنـان الزايـر ) تحت عنوان
(110 ملايـين دولار أنفقتهـا السعـوديات على أناقتهــن في حفلات الـزواج ) ، يقول التقرير :
أنفقت السـعوديات خـلال الموسم الصيـف أكثر من 400 مليون ريال سعـودي على شراء ملابس السهرات والاكسسـوارت ومواد التجميل ، وتقول ليـلى الغامدي وهي مديرة مكتب للاستشـارت الاقتصـادية في السعودية أنّ مظاهر البذخ متفشـية بين السـعوديات ، خاصة في المناسبات ، لدرجة أن البعـض منهنّ تغيّر ملابسـها وزينتها ثلاث مرات في سهرة واحدة من سهرات الحفلات ، كما تبالغ بعض السـعوديات في الاهتمام بجمالهن من خلال إجراء عمليات تجميل شدّ الوجه والجبهـة ورفع الحاجب وتقدّر ما أنفقنه على هـذه العمليات 50 مليون ريال ، وتأتي صالونـات التجميل ضمن الاهتمامات الأساسية للمرأة السعودية إدْ تنفق إحداهن حوالي 1500 ريال على تسريحة واحدة عادة ماتنتهي آخر الليل .
وترى الغامدي : أن البذخ يبلغ ذروته لدى البعض منهن إذ تغـيّر ملابسـها في الليلة الواحدة بمعدّل ثلاث مرات ، وفي كلّ مرّة تكون تكلفة الفستان حـوالي 8000 ريال ، وهي لا تلبس الفستان نفسهمرة أخرى خشية أن تكون الأخريات قد رأينه عليها من قبل .
وتعتبر السـعودبات أكثر نساء العالم بذخًا في حضورهن حفلات الزواج إذ إن تكلفة حضور المراة لحفلة زواج واحدة تعادل أحيانًا تكاليف إقامة الحفلة نفسها .
فالسيدة الواحدة تحتاج في المتوسط مابين 15 – 25 ألف ريـال ، موضحة أن ظاهـرة الإسـراف والبدخ تختلف من منطقة إلى أخرى ، حيث أن مدينة جدّة تتصدّر مناطق السـعودية فيها ، تليها الرياض، ثم أبها ، ثمّ الشرقية ، وأقلّها مدينة نجران .
2- ظاهرة الغناء والطرب :
تسـللت إلى مجتمعاتنا عادات وتقاليـد ما أنزل الله بها من سـلطان ، فصار الغناء والطرب والرقص الركيزة الأسـاس التي يتقـوَّم بها حفلـة الخطوبة أو الزواج ، وأصبحت الأفراح تقوَّم أيضًا من خلال الفرقة المشاركة ، وأعراضنا عن شيء يسمى ذكر الله ، وذكر مناقب النبي ( ص ) وأهل بيته ( ع ) والكثير صار يردَّد أن فرحًا أوعرسًـا ليس فيه ( طقاقة ) تطـرب فإنه زواج لا طعم له ولالون ولا نكهـة .
وربـما يشـار إلى حفلات الأعـراس التي تحيا بالتواشـيح الدينيـة في مديـح النبي ( ص ) وأهل بيتـه الكرام بالانتقاص والسخرية والاستهزاء .
وفي هذا السياق ، نحن مطالبون بتأصيل الاجواء الإيجابية والاجتماعية التى تتواءم وتعاليـم الشريعة ، ومن شـأنها أيضًا أن تضفي جوًّا من البركة في الاجتماع ، وبالتالي تنسـحب البركة إلى المتزوجين والحاضرين .
3- ظاهرة إطلاق النار في الهواء والتفحيط :
لم تقتصر انتشـار العادات والظواهر السـلبية في الأعـراس لدى النسـاء فحسـب ، بل امتـدت ليـأخد الرجـال نصيباً منها ، ومنها ظاهـرة إطلاق الأعـيرة الناريـة في السـماء ، والحـركات الاستـعراضية الجنونية بالمركبات ( التفحيط ) .
إن إطلاق النار ، وإن كان مو جَّهًا نحو السماء ، هو عملٌ لا يخلو من حماقة وتهوُّر ، لأنه يتسبب في إيداء الغير وترويعهم ، كما أنّه يحرَّص المراهقين على اقتناء السلاح من أجل أن يعيد المشهد نفسه ، وهو عمل يشكّل خطورةً على المختلفين خصوصًا ساعة نشـوب الخلاف أو الشـجار بين المسـلحين وغيرهـم ، مما يقلب المعادلة وتحوَّل الأفراح إلى أتراح وإلى تصفية حسابات ، وكذالك ينبغي التنبيـه إلى الظاهرة الأخـرى التي لاتقـلِّ خطورة عن الأولى ، وهـي الاسـتعراض المتهوِّر بالمركبات ، وهي تؤدي إلى إتلاف المال وهدر النعيم ، والأهم تعريض الناس إلى الهلاك .
الوقفة ألجريئة :
يتفـق الجميـع على وجـود أزمـات وخلـل في الأفـراح والأعـراس ، وكل يُبـدي امتعاضه وعدم رضاه لما يجري من البُعد والإعراض عن تعاليم الله ، ومن هدر الأموال إلى غير ذلك ، بَيْدَ أننا نجد أنفسـنا جميعًا معنيين بإيجاد الحلول والتوصّل إلى طريق يقودنا إلى عـلاج الأزمـة التي يكتـوي بنارها الجميع ، ولنعلـم أنّ القضاء على أيِّ معضلـة وتغييب الأزمـة من الواقـع الاجتماعي لن يكون بعـصىً سـحرية ، وإنما الحلول وطلب العلاج إنما يكون بالتوسّـل والارتماء إلى الأسـباب الطبيعية التي هي في متنناول الجميع ، فالحلُّ يكمـن في الفرد والعائلة ، فكلّ أسرة بوسـعها القيام بعمل يغاير المألوف والمشـهور والمعمول به ، فيمكن التمرّد على المألوف المنكر ، ويمكن تجاوز المشـور المحرّم أو المبغـوض ، إنّ الإصرار على على فرض القناعة المنسجمة وتعاليم الشريعة وبسطها ولو على مستوى العائلة هي الخطوة الأولى في الدرب السليم ، لأن العادات الحسنة إنما تبدأ بالفـرد ثمّ تنتشر في المجتمع ، وكذا شـأن العادات الداخلية والسيئة تبدأ بالواحد حتى تعانق المئة و الألف .
ويبقى الإشـكال الذي بسببه يحجم الكثير عن الإقدام على التغيير أو التمرّد على الظاهرة السيئة هي عبارة ( أخشى أن أكون شاذًّا عن التيار الاجتماعي العام ) ، ونسينا أنَّ بداية الظاهرة كانت مستهجنة وشاذة ولكن سرعان ماقبلتها النفوس وتكيّف معها الأذهان ، والأهـم أن تتكرَّر البادرة الطيبة والعادة الحسـنة ، حتى تتحول إلى مظهر مألوف ومقبول ، فالخير عادة والشرّ عادة .
وليكــن رضـا الله مقدمًّـا على رضـا الناس، لأنـه الغاية ، والرًّهان على رضا الناس هي غاية لا تدرك .
(1) . الزوج الإسلامي، السيد الوحيدي ص 54
(2) . ميزان الحكمة، الشيخ الشهري ج 4 ص 279
(3) . نفس المصدر
(4) . نفس المصدر