سألني احد الأخوة هذا السؤال، متى تتوقف دمعتكم على الحسين ؟
لا اعلم إذا كان سؤاله هذا استفهاما، أما كان استهزاءا كما هي العادة. فكانت إجابتي كافية ومقتضبة، بحيث انه اكتفى بها ولم يحر جوابا. تتوقف دمعتنا عندما تعود القدس للمسلمين.
لكن ماذا أجيب من يعتقد إننا نبكي على الحسين تكفيرا على ذنبنا في قتلنا إياه؟! ولا يقبل منا أي تعليل، ويفسرها كلها بالكذب تارة والنفاق تارة أخرى.
فهل كان بكاء الزهراء بعد وفاة أبيها، تكفيرا عن ذنب قتلها ايها؟ أم كانت تكذب؟ أو تنافق؟ حاشاه وهي من الذين قال الله عنهم في كتابه ﴿ إنما يريد الله ليذهب عنكم الله الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ﴾ سورة الأحزاب - آية 33.
لكن ما الذي دعى الزهراء للزوم البكاء حتى وفاتها؟
ماذا كانت أهدافها من ذلك؟
وما هي النتائج التي تحققت؟
كانت الأيام الأخيرة من حياة الرسول وما بعدها مليئة بالأحداث المتسارعة المؤلمة، التي معظمها كان موجها خصيصا لأهل البيت . حيث انقلبت قريش على أعقابها وارتدت بعد إيمانها، وتوجهت بكل قوتها وعنادها لانتزاع الحكم من أهله مهما كان الثمن.
لذا استخدمت كافة السبل الممكنة لتوطيد دعائم ملكها، بالقهر والتهديد والقتل، وآخرها كان سلب أهل البيت حقوقهم المفروض لهم شرعا، ولو بالتمسك بالأحاديث المكذوبة على الرسول . ومنها «نحن أنبياء الله لا نورث وما تركناه صدقة» كتاب سيدة النساء فاطمة الزهراء سلام الله عليها - علي موسى الكعبي - صفحة «170».
مع معرفتهم أن ما في يدي الزهراء لم يكن يبقى لها، وإنما كانت تنفقه على الفقراء والمحتاجين. وتعيش وهي بنت نبي الأمة، كما يعيش الفقراء والمساكين. لكن لم يرضهم ذلك لخوفهم من أمير المؤمنين ، وقوته وشدته في اخذ العدو. وثانيا من أن يبني بأموال الزهراء ، جيشا ومعارضة يقلب بها الحكم على رؤوسهم.
لذا نقل عن عاصم بن عمر، عن محمود بن لبيد قال: ولولا حلمه «الامام علي لما استطاعوا أن ينظروا إلى باب بيته، فكيف بان يحرقوا الباب ويهجموا على داره ويصنعوا بابنة رسول الله ما صنعوا من «العصرة والضرب واللطم وسقط الجنين وكسر ضلعها»، كتاب بيت الأحزان - للشيخ عباس القمي
عندها كان لزاما على الإمام علي بحكم مركزه الديني والسياسي، أن يتحرك ليعيد الناس إلى رشدهم ويدعوهم للمعروف وينهاهم عن المنكر. ولكنه اصطدم بجدارين أصمين لم يتمكن من اختراقهما. احدهما المكابرة وعدم قبول الحق من قبل البعض، رغم معرفتهم بمنزلته، ولكن نزولا عند مصالحها الخاصة، ومحاباة للجهة الحاكمة. والأخرى فقدت الجرأة والعزيمة متضرعة بالبيعة للحكومة الجديدة، قائلين للزهراء : يا سيدة النساء لو كان أبو الحسن ذكر لنا هذا الأمر من قبل أن نبرم العهد، ونحكم العقد، لما عدلنا إلى غيره. بيت الأحزان - للشيخ عباس القمي.
وبسبب هذا الوضع المتأزم، لم يكن بمقدور الإمام القيام علنا بأي تحرك سياسي وعقائدي، قد يفضي إلى تناحر الأمة وتفرقها، ومن ثم إضعافها أمام الدول المجاورة التي تتربص بها من روم وفرس. ولكن ذلك لم يكن ليقعده عن تأدية دوره كأمام للأمة، وان لم تعترف الأمة له بهذا الدور. ولكن دورا يجعله معذورا أمام الله كوصي للرسول ، كما قال الله تعالى في محكم التنزيل ﴿ انما على رسولنا البلاغ المبين ﴾ سورة المائدة - آية 92، «ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء» سورة البقرة - آية 272. وليس من واجبه إيصالهم إلى الإيمان والتقوى، ولكن عليه التبليغ وإلقاء الحجة.
فإن لم يكن بمقدوره القيام بذلك بنفسه مباشرة، ولكن كان باستطاعته الاستعانة بمن لديه حصانة تمكنه من هذا الدور، ولديه القوة الروحية والعقائدية للقيام به خير قيام. فلم تكن غير سيدة نساء العالمين، فاطمة بنت محمد . وهي الركن الأخر المتبقي له، بعد وفاة الرسول . كما كانت أمها خديجة من قبل ركنا لرسول الله . لذا لم يجبر الإمام علي وبقية بني هاشم على المبايعة حتى قضت نحبها . ونقل عن جابر، قال: سمعت رسول الله يقول لعلي قبل موته بثلاث: «سلام الله عليك يا أبا الريحانتين، أوصيك بريحانتي من الدنيا خيرا، فعن قليل بنهد ركناك، والله خليفتي عليك». كتاب سيدة النساء فاطمة الزهراء سلام الله عليها - علي موسى الكعبي - صفحة 138.
وكونها امرأة تعيش في مجتمع قبلي، ولا يزال ينظر إلى المرأة نظرة دونية. فيمكنها استغلال تلك النظرة إليها كإنسان ضعيف، في سبيل الوصول إلى أهدافها، بل أهداف الرسالة. وهذا ما تنبه له أبو بكر عندما تحرك المسلمين على اثر كلام الزهراء . فصعد المنبر وقال للناس: ما هذه الرعة إلى كل قالة إنما هو ثعالة شهيده ذنبه. يقول ابن أبي الحديد: سألت أستاذي لماذا تكلم أبو بكر بكلام جارح وبذلك اعتدى على حرمة علي وفاطمة ؟ أجابني: يجب أن يتحدث السلطان بهذه الصورة في بعض الأحيان لحفظ سلطنته. سيرة السيدة الزهراء - السيد عبدالحسين دست غيب - صفحة 168.
لا يتمكن احد كائن من كان أن يمنعها من البكاء على أبيها، ولكن لم يكن البكاء هدفا نهائيا من أهداف الزهراء ، ولكنه وسيلة لإثبات الحق وإبطال الباطل. عن محمد بن سهل البحراني يرفعه إلى أبي عبدالله قال: البكاؤون خمسة: آدم، ويعقوب، ويوسف، وفاطمة بنت محمد، وعلي بن الحسين . فأما آدم فبكى على الجنة حتى صار في خديه أمثال الاودية، وأما يعقوب فبكى على يوسف حتى ذهب بصره، وحتى قيل له: " تالله تفتؤ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين" وأما يوسف فبكى على يعقوب حتى تأذى به أهل السجن فقالوا له: إما أن تبكي الليل وتسكت بالنهار، وإما أن تبكي النهار وتسكت بالليل، فصالحهم على واحد منهما، أما فاطمة فبكت على رسول الله حتى تأذى بها أهل المدينة. كتاب مأساة الزهراء .. الجزء الأول - العلامة: السيد جعفر مرتضى العاملي - الصفحة 336
فكانت الخطة المرسومة للزهراء تتفرع إلى:
1 - تذكير الناس المستمر بالنبي صلى الله عليه واله وسلم.
2 - تذكير الناس بحقوق أهل البيت المغتصبة.
3 - فضح السلطة الحاكمة وإزعاجها.
فكان للدمعة الحارة أثرها القوي لتذكير الناس بنبيهم الذي نسوه في زحمة الصراع على الحكم، وتركوه وأهله دون مواساة أو مساعدة في تجهيزه ودفنه. ولم يذكروه كما قيل إلا بعد ثلاثة أيام، عندما سمعوا المساحي تجري على قبره الشريف.
ولكن الطيبين من المهاجرين والأنصار لم يرق لهم ما قامت به السلطة، من انتزاع لحق الزهراء بالقوة. فثارة ثائرتهم وقارب الانقلاب. ولكن حنكة الحكومة وسياسة قائدها الذي قال مهديا الوضع ومخففا من لهجته: «قد بلغني يا معشر الأنصار مقالة سفهائكم، فو الله إنّ أحقّ الناس بلزوم عهد رسول الله أنتم، فقد جاءكم فآويتم ونصرتم، وأنتم اليوم أحقُّ من لزم عهده، ومع ذلك فاغدوا على أُعطياتكم، فإنّي لست كاشفاً قناعاً، ولا باسطاً ذراعاً ولا لساناً إلاّ على من استحقّ ذلك والسلام». سيدة النساء فاطمة الزهراء - علي موسى الكعبي - صفحة 222.
لذا لم يكن أمام السلطة للتخلص من الزهراء ، التي تسكن بجوار مقر الحكم، إلا الطلب من الإمام علي أن يسألها أما أن تبكي ليلا أو نهارا. فلقد تأذى المسلمين ببكائها، أو ثقل على الحكومة وجودها وبكائها الذي يذكرهم دائما بمظلوميتها.
ولكن كيف تترك الزهراء خيطا قويا، يمكنها كمعارضة الانتقام به من السلطة. فقالت للإمام علي : ما اقل مكثي بينهم وما أقرب مغيبي من بين أظهرهم، فو الله لا أسكت ليلا ولا نهارا أو ألحق بأبي رسول الله . فلم يعترض الإمام على ذلك، بل شجعها على ذلك قائلا: افعلي ما بدا لك يا بنت رسول الله. اقتباس من كتاب بيت الأحزان - للشيخ عباس القمي
لم يتمكنوا من إدارة أمورهم وشؤون الدولة وفاطمة بجوارهم، ولتأثيرها وقوة بكائها على الوضع القائم سياسيا، فقام أزلام النظام من منعها من النياحة عند قبر أبيها وطردها منه. فكانت تأخذ الحسن والحسين عليهما السلام معها إلى البقيع وتستظل تحت أراكة، لتنوح وتبكي على أبيها صلى الله عليها واله وسلم.
لم تستفد السلطة من إقصاء الزهراء شيء يذكر، وبقيت المعارضة العلنية التي لا يمكن إغفالها. فهي معارضة سلمية من امرأة ضعيفة لا حول لها ولا قوة، وكان سلاحها البكاء والنياحة. والبكاء على من؟ على أبيها خاتم الأنبياء. فمن لديه الجرأة في لومها؟
وإذ لم تستطع السلطة من الانقضاض مباشرة على الزهراء والتخلص منها، فقرروا الفتك بمن تحميها وتستظل بفيها - الأراكة - فما هو جرمها؟ فأرسلت السلطة من يقتلعها من عروقها. قال تعالى «إذا المؤدة سؤلت بأي ذنب قتلت» سورة التكوير - آية 9.
ولتتمكن الزهراء من مواصلة جهادها، بنى لها الإمام بيت الأحزان بعيدا عن عيون السلطة قريبا من البقيع. والذي بقي على مدى الدهر شاهدا على ظلامتها وجهادها، ولم يهدم ألا من قريب من قبل أحفاد تلك الطغمة الفاسدة.
فهل انتصرت الزهراء في صراعها؟
سياسيا لم تنتصر على أعدائها، ولم تستطع إعادة حكم أهل البيت . ولكن عقائديا انتصرت وبقيت صيحتها رمزا للجهاد والتضحية، كما انتصر ابنها الإمام الحسين في كربلاء.
وجاء في كتاب فـدك في التــاريخ للإمام الشهيد محمد باقر الصدر قدس سره: نجحت معارضة الزهراء لأنها جهزت الحق بقوة قاهرة، وأضافت إلى طاقته على الخلود في ميدان النضال المذهبي طاقة جديدة. وقد سجلت هذا النجاح في حركتها كلها وفي محاورتها مع الصد يق والفاروق عند زيارتهما لها بصورة خاصة إذ قالت لهما أرأيتكما إن حدثتكما حديثا عن رسول الله تعرفانه وتفعلان به؟ فقالا: نعم، فقالت: ناشدتكما الله ألم تسمعا من رسول الله يقول: «رضا فاطمة من رضاي وسخط فاطمة من سخطي، فمن أحب فاطمة فقد أحبني ومن أرضى فاطمة فقد أرضاني ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني» قالا: نعم سمعناه من رسول الله قالت: «فإني اشهد الله وملائكته أنكما أسخطتماني وما أرضيتماني ولئن لقيت النبي لأشكوكما عنده».
وسجلت اعتراضها الأخير مختوما ممهورا من قبلها، عندما أوصت الإمام علي بمنعهما من الصلاة عليها. وظهر اثر ذلك جليا عندما علم المسلمون بدفنها دون أن يصلوا عليها، فثارت ثائرتهم وكادوا أن ينبشون القبر، لو لا أن الإمام علي ، قام بدوره المناسب في الوقت المناسب. وخرج لهم مسلطا سيفه مستعدا للموت، في سبيل ثنيهم عن عزمهم، فردهم على أعقابهم خائبين.
وكذلك ظهر انتصارها جليا في حديث منقول عن عبدالرحمن بن عوف: أنه سمع أبا بكر يقول في مرضه الذي توفي فيه: وددت أني لم أكن فتشت بيت فاطمة وأدخلته الرجال، ولو كان أُغلق على حرب. سيدة النساء فاطمة الزهراء سلام الله عليها - علي موسى الكعبي - صفحة 165.
ويتضح المعنى الرمزي لنحلة الزهراء في حديث الإمام الكاظم مع هارون الرشيد الذي نقله الزمخشري في «ربيع الأبرار» قال: كان الرشيد يقول لموسى الكاظم بن جعفر : يا أبا الحسن، حدُّ فَدَكَ حتى أردّها عليك، فيأبى حتى ألحّ عليه، فقال: «لا آخذها إلاّ بحدودها، قال: وما حدودها؟ قال: يا أمير المؤمنين، إن حددتها لم تردّها. قال: بحقّ جدّك إلاّ فعلت. قال: أما الحدّ الأول: فعدن، فتغير وجه الرشيد، وقال: هيه! قال: والحدّ الثاني: سمرقند، فاربدّ وجهه، قال: والحدّ الثالث: أفريقية، فاسودّ وجهه، وقال: هيه! قال: والرابع سِيف البحر ممّا يلي الخزر وأرمينية. قال الرشيد: فلم يبقَ لنا شيء، فتحوّل في مجلسه. قال موسى : قد أعلمتك أنّي إن حددتها لم تردّها». من كتاب سيدة النساء فاطمة الزهراء ، تأليف علي موسى الكعبي - صفحة 194.
فها هو ذا الهدف الاساس من بكاء الزهراء يظهر جليا ليس عليه غبار. ليس بكاء وتقوقع ونكماش على الذات، ولكن عمل ومبادرة اجابية في سبيل اعلاء كلمة الحق وزهاق الباطل. فهل يمكننا الاقتداء بها واقتفاء اثرها؟ فلقد قدمت كل شيء تملكه، من مال وصحة، في سبيل العقيدة والمبدأ، وكذا اقتدى بها ابنائها حتى هذا اليوم. فالسلام عليها يوم ولدت ويوم ماتت ويوم تبعث حية.