سماحة الشيخ جعفر الداوود
لماذا ثقافة التقدير ؟
تحرص تعاليم الشريعة على استمرارية صفاء الجو الاجتماعي وإبعاده عن العوامل والأسباب التي من شأنها تعكير وتلويث المناخ العام للمجتمع ، وأيضا تدعو إلى تأصيل عوامل الاستقرار التي تمنح الأمن والسكينة من قبيل التعاون والتواصل والاحترام ، وفي المقابل تحذّر من الوقوع في مغبات الآفات المؤدية إلى الإخلال بالأمن الاجتماعي العام ، والتي من أبرزها إشاعة المثالب ، وجاء التحذير الإلهي ليكشف عن خطورة هذه الآفة ، قال تعالى ( ان الذين يحبّون ان تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب اليم في الدنيا والآخرة) (1)
(( ان إشاعة الفاحشة لا تنحصر في ترويج تهمة كاذبة ضد مسلم مؤمن ، يتهم بعمل مخل بالشرف ، وإنما هذا كله صورة من صورها ولا يقتصر عليها فقط ، ولهذا التعبير مفهوم واسع يضمّ كل عمل يساعد في نشر الفحشاء والمنكر.
وقد وردت ي القرآن المجيد كلمة الفحشاء غالباً للدلالة على العمل المخل بالعفة والشرف ، أما الراغب الأصفهاني فقد ذكر مفهوماً واسعاً لها : فقال الفحش والفحشاء والفاحشة، وهو ماعظم قبحه من الأفعال والأقوال.
ويستعمل القرآن احياناً هذا المفهوم ، حيث يقول ( والذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش) .. )) (2).
وبموجب هذا النهج نهى الإسلام وبشدّة عن كلّ عمل يؤدّي إلى بث ونشر المخازي والسموم إلى ساحة الفرد او العائلة او المجتمع ، لأنّه يدفع نحو الهاوية والتردي في علاقات الناس، ومن هذا المنطلق حرمت الغيبة والنميمة والبهتان وغيرها لما تحمل من افرازات سلبية مدمرة ، فالغيبة آفة تسيء إلى حرمة المجتمع بسبب فضحها خفاياه، وقد أوجب الإسلام مبدأ ستر العيوب لئلا تعم المثالب في دوائر الحياة الاجتماعية.
(( ويدين القرآن - بشدّة – ارتكاب الذنوب في العلن كإشاعة الفحشاء التي ذكرتها الآيات السابقة ، وسبب الإدانة واضح كما أسلفنا ، فارتكاب الذنوب كالنار التي تسري في الهشيم تأتي على المجتمع من أساسه فتنخره حتى تهدمه وتذروه ، لهذا يجب الإسراع لإطفاء هذه النار ، أوفي اقلّ تقدير لمحاصرتها ، أما إذا زدنا النار لهيباً ونقلناها إلى مكان آخر ، فإنها ستحرق الجميع ، ولا يمكن بعدئذ اطفاؤها أو السيطرة عليها .
وإضافة إلى ذلك فانّه لو عظم الذنب في نظر عامة الناس ، وتمّت المحافظة على سلامة ظاهر المجتمع من التلوث والفساد ، فان ذلك يمنع انتشار الفاحشة بصورة مؤكدة ، أما نشر الذنوب ولتجاهر بالفسق ، يحطم هذا السد الحاجز للفساد ، ويستصغر شأن الذنوب من قبل الناس ، ويسهل التورط فيها ، وقد جاء في حديث رسول الله (ص) ( من أذاع فاحشةً كان كمبتدئها ) ..)) (3).
ومن المؤسف جداً تنامي هذه الظاهرة في الوسط الاجتماعي ، فالعيون تبقى مفتحة على المخازي والسلبيات ، وتكون مغضوضة عن المحاسن والحسنات ، واللسان ينطلق في سرد مارآه شائناً في غيره ، ويتلكأ ساعة ذكر المعروف وتعداد الجميل ، وضمن هذا السياق يذكر الشيخ الغزالي في كتابه علل وأدوية، وهو في معرض حديثه عن الخلافات التي تلف المجاميع الدينية والاجتماعية يقول( اذكر إن بابا روما الأسبق مات عقب مرض المّ به،فألّف طبيبه الخاص رسالةً لا أدري مافيها عن حياته الخاصة، فالنتيجة أن صودرت الرسالة ، وفصل الطبيب من النقابة ، وانتهت حياته الاجتماعية ، أي ان قومه حريصون على سمعة رمزهم ولذا عمدوا على تطويق الرسالة ومافي الرسالة، وهذا ينّم عن اهتمامهم وتعاونهم فيما بينهم .
ثمّ يقول وقد ألفت عشرات الكتب عن نابليون تنوّه بأمجاده وتتواصى بالسكوت عن غدره وشذوذه وخسته ، القوم ان رأوا من عظمائهم خيراً أذاعوه، وان رأوا شراً دفنوه ، ثمّ يشير أما نحن فمبدعون في تضخيم الآفات إن وجدت ، واختلاقها إن لم يكن لها وجود ..انتهى كلامه).
* العلاقة مع الحسنة *
تلك هي الخطوط العامة التي رسمتها تعاليم الشريعة في العلاقة مع السيئة ، وبقي الحديث عن الورقة الأخرى وهي العلاقة مع الحسنة.
الحسنات : عنوان عريض يستبطن مفردات عديدة ، تنطبق على كلّ فعل وموقف وحركة وكلمة تحقق نفعاً للفرد والمجتمع ، وهي تتمثّل أيضاً في عناوين كبيرة كالخير والمعروف والإحسان والأخلاق ..الخ.
ومسؤوليتنا إزاءها تكمن في نشرها وبثها وتوسيع دوائر وجودها ، في وسط العائلة ، وفي الوسط الاجتماعي ، والاهم أن تسود وتنتشر أجواء المعروف والعمل الخيري المتعدد .
ومن جملة العوامل التي تسهم في تفعيل العمل الايجابي بجوانبه وأنماطه المتنوعة: هو العمل بمنهج التقدير والتكريم لأهل المعروف ولرموز المواقف العطائية المتميّزة .
انّ تكريم الأولياء منهج اصّله القرآن الكريم في كثير من آياته ، حيث كشف عن ثقافة التقدير والتكريم للأنبياء والرسل والأولياء الصالحين .
• القرآن يكرّم الرسول الاعظم(ص)*
اثنى القران المجيد على جوانب مشرقة من شخصية النبي(ص) ، ومن تجليات هذا التقريظ انّه التزم في حياة النبي(ص) وليس بعد مماته ، وبهذا النهج القرآني الجلي نستطيع أن ندفع الفكرة الدارجة في أوساطنا الاجتماعية والتي ترى ان محاسن أهل الخير والمعروف لا تذاع الاّ بعد أن يوسدوا تحت أطباق الثرى .
فإذا غيبهم التراب يمكن السماح لمواقفهم وعطاءاتهم أن تذكر وتنشر .
فيشيد الحق عزّوجل بدماثة أخلاق نبيه(ص) ( وانك لعلى خلق عظيم)(4)، وفي أية أخرى يسلّط الضوء على رحمته وتواضعه التي تكشف عن جمال وكمال في إنسانيته (ص) ، ( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم) (5).
وفي موطن آخر يعدد مفردات مناقبه ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ماعنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم). (6)
وأيضا لم تغيّب آيات القران المجيد مواقف وتضحيات وصيّه وخليفته أمير المؤمنين (ع) ، قال تعالى ( ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد).(7)
وقال تعالى ( ويطعمون الطعام على حبّه مسكيناً ويتيما وأسيرا) (8)
وقال تعالى ( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون).(9)
• الهوامش*
(1) سورة النور 19
(2) تفسير الأمثل لآية الله العظمى ناصر مكارم الشيرازي ج11 ص44
(3) نفس المصدر
(4) سورة القلم 4
(5) سورة الفتح 29
(6) سورة التوبة 128
(7) سورة البقرة 207
(8) سورة الانسان 8
(9) سورة المائدة 55